رؤية أمريكية:
كيف ستكون ملامح الشرق الأوسط في 2030؟

رؤية أمريكية:

كيف ستكون ملامح الشرق الأوسط في 2030؟



بالرغم من تنامي أطروحات الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، فقد ظهر، بشكل أو بآخر، أن هذه الأطروحات تتغافل معطيات التاريخ والواقع والتي تشير إلى أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تنفصل عن الشرق الأوسط، الذي لا يزال مسرحًا لمنافسات السياسة الخارجية، والمساومة الجيوسياسية، والمشاريع التجارية والاستثمارية. ناهيك عن المصالح الاقتصادية القائمة في الشرق الأوسط، واحتدام المنطقة باضطرابات مدنية ودينية، وتهديدات أمنية عابرة للحدود تفرض على واشنطن استمرار الاهتمام بما يجري في المنطقة.

وفي هذا الصدد، نشر معهد “نيولاينز للاستراتيجية والسياسة” تقريرًا بعنوان “الشرق الأوسط في 2030″، لمدير مركز الطاقة والموارد الطبيعية والجغرافيا السياسية في معهد تحليل الأمن العالمي والزميل غير مقيم في المجلس الأطلسي، أرييل كوهين، يحاول تقديم رؤية استشرافية حول الاتجاهات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والجيوسياسية للشرق الأوسط في عام 2030، وهي الرؤية التي تحاول خدمة المصالح الأمريكية بالمنطقة.

الاقتصاد السياسي

تتسم اقتصادات الشرق الأوسط بتنوع مصادر الدخل، ورغم انتشار المشكلات والقضايا الاقتصادية الهيكلية، فإن المؤلفات الأكاديمية، ومنشورات المؤسسات المالية الدولية، تركز بشدة على التوزيع والنمو وتطوير السوق الليبرالية والتوظيف. ويمكن بوضوح التمييز بين الدول غنية الموارد والدول شحيحة الموارد في المنطقة. حيث تشمل الأولى دول الخليج والعراق وإيران وليبيا والجزائر.

فمع زيادة استخدام النفط والغاز الطبيعي كمصدر للطاقة منذ الخمسينيات من القرن الماضي، سيطر نظام الريع من الموارد الطبيعية على إيرادات هذه الدول. واعتمد الاقتصاد السياسي لهذه الدول على القطاع الاستخراجي، وبرز مصطلح “العقد الاجتماعي العربي” لتمييز العلاقات بين الحكومات والمجتمعات العربية عن نظرية العقد الاجتماعي الكلاسيكي. حيث يرتبط الاقتصاد السياسي للدول الغنية في الشرق الأوسط بالإعانات، وشبكات الأمان الاجتماعي السخية، والاعتماد الكبير على قطاع السلع على حساب القطاعات الأخرى، وزيادة بطالة الشباب حتى بين المتعلمين. ولكن مع انخفاض أسعار النفط وتقلص نفوذ أوبك في الأسواق العالمية، بدأت العديد من هذه الدول، خاصةً دول مجلس التعاون الخليجي، في تنفيذ إصلاحات للانتقال إلى نظام اقتصادي ما بعد صناعي غير ريعي.

وفي هذا الإطار، يذكر “أرييل كوهين” أن الدول النفطية في الشرق الأوسط تواجه صعوبات في تطوير ثقافة أخلاقيات العمل أو نظام سيادة القانون الذي من شأنه أن يجذب ويضمن سلامة الاستثمارات الأجنبية في القطاعات غير الاستخراجية. ولذلك يجب على صانعي السياسات العمل على تمكين الطبقات الوسطى، وإرساء سيادة مؤسسية للقانون، وتخفيف تأثير الدوائر الدينية. وقد شهدت المنطقة خلال العقد الماضي تطورات واعدة. حيث تُظهر تصنيفات البنك الدولي تحسن اقتصادات دول المنطقة، خاصةً دول مجلس التعاون الخليجي، فيما يتعلق بسهولة ومرونة ممارسة الأنشطة الاقتصادية.

وعلى الجانب الآخر، يرسم الاقتصاد السياسي للدول غير الغنية في الشرق الأوسط، مثل المغرب وتونس ولبنان والأردن، نظرة مختلفة للعقد القادم. حيث تعتمد هذه الدول على الضرائب وليس الموارد الطبيعية، وتتسم بوفرة اليد العاملة ومحدودية الموارد. ورغم مساعي الخصخصة وتطوير القطاع الخاص منذ الثمانينيات، إلا أن الأدبيات تشير إلى أن التحرير الاقتصادي في غياب إصلاح سياسي أدى إلى ظهور بعض المشكلات، حيث تعاني هذه الدول، بحسب التقرير، من التوزيع غير المتكافئ للموارد العامة والإدارة غير الفعالة وزيادة الديون والأوضاع المالية المقيدة، وهو ما يدفع نحو الاضطرابات المدنية وانعدام الثقة في النخبة السياسية. إلا أن سوء الإدارة لا يزال مستمرًا، مما أنتج، على سبيل المثال، في لبنان حادث انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 الذي أودى بحياة العديد من الأشخاص، بالإضافة إلى الخسائر المادية.

ويضيف “كوهين” أن مسائل خفض الديون وإيجاد حلول مستدامة للقيود المالية ستكون أهم القضايا الدول العربية خلال العقد القادم، وهو ما سيتطلب مفاوضات حاسمة مع المؤسسات المالية الدولية والمقرضين مثل صندوق النقد الدولي. وعليه، يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تلعب دورًا مهمًا خلال هذا العقد عبر الأعمال الثنائية، والاستثمار الأجنبي المباشر.

التحولات الاجتماعية والسياسية

غيّرت التحولات الاجتماعية والسياسية الأخيرة دول الشرق الأوسط. فقد مثلت عمليات التحول الاقتصادي في الدول الغنية تحديًا مجتمعيًا من حيث تكيف المواطنين مع الأوضاع الجديدة. كما أنها أثارت قلق قطاعات واسعة من النخب التي باتت مطالبة بالاستعداد لمراكز قوة بديلة ناشئة يمكن أن تُهدد شرعيتها في ظل تحولات العقد الاجتماعي.

ومع تزايد القيود الاقتصادية في البلدان غير الغنية بالموارد، قد تتصاعد الاضطرابات وانعدام الثقة في الحكومة. ولعل النموذج الأبرز على ذلك الحالة اللبنانية، إذ شهد لبنان احتجاجات ضد الإدارة العامة غير الفعالة، والفساد، ونظام تقاسم السلطة الطائفي، وهي الاحتجاجات التي شهدت تعبيرًا من جميع الطوائف الدينية عن استيائهم من الفشل الحكومي، بما يشير إلى أن دور الهوية القائمة على الدين بدأ يفقد جاذبيته في لبنان. وقد أظهر استطلاع أجرته أبحاث الباروميتر العربي عام 2019 لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ارتفاع عدد الأشخاص الذين يُعرفون بأنهم “غير متدينين” منذ عام 2013 من 8٪ إلى 13٪، خاصة بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 30 عامًا.

واتساقًا مع هذه التحولات، يشيرالتقرير إلى استمرار تراجع تيار الإسلام السياسي في المنطقة، حيث أضحت الحركات الإسلامية أقل قوة وأكثر محلية. وسيؤدي تغيير التركيبة السكانية بسبب الزيادة المستمرة في عدد الشباب إلى تغييرات في المشهد السياسي والأيديولوجي. وسيصبح الشباب أقل عرضة للأيديولوجيات الراديكالية، مقابل نمو الطلب على الحكم الأفضل والفرص الاقتصادية.

ويرجح أن يسرع تزايد التواصل، والتقدم الكنولوجي، وارتفاع مستويات التعليم، من تغير المعايير المجتمعية، مع اختلاف هذه التغيرات بطبيعة الحال من دولة إلى أخرى نظرًا للاختلاف في الثقافات المحلية والتفسيرات الدينية. وفي هذا السياق، ستشهد الدول ذات الاقتصادات الأفضل نسبيًا تنمية اجتماعية أكبر، في حين سينشط الفاعلون الراديكاليون في دول الاقتصادات الضعيفة والدول المنهارة.كما سينمو وصول وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها بين الشباب؛ فوفقًا لمسح سنوي لعام 2019 حول استخدام الشبكات الاجتماعية في الشرق الأوسط، نشرته كلية الصحافة بجامعة أوريغون في يناير 2020، يقول نصف الشباب العربي إنهم يحصلون على أخبارهم يوميًا عبر “فيسبوك”، قبل الوسائل الأخرى كالتلفزيون والصحف.

ويفترض “كوهين” أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي سيظل مهمًا في الجانب الاجتماعي والسياسي لشباب الشرق الأوسط، لأغراض تنظيم الاحتجاجات، أو للحصول على الأخبار، أو الاتصال بالعالم. وستساعد وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متزايد خلال العقد القادم في حشد الشباب حول أفكار التغيير المجتمعي. ولن يقتصر التغيير المجتمعي على دول احتجاجات الربيع العربي بموجتيه، وإنما من المحتمل أن يمتد إلى دول مستقرة، وغنية.

التنافس الإقليمي

يستبعد التقرير التلاشي القريب للاضطرابات والصراعات السياسية التي انتشرت في المنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وبعد الربيع العربي. ويتوقع تزايد ضغوط الصراعات والاشتباكات في السنوات العشر القادمة، مع احتمالية نشوب حرب صغيرة أو إقليمية. كذلك ستستمر الاحتكاكات المذهبية والطائفية بين السنة والشيعة، وبين الإخوان المسلمين والسنة الآخرين من السلفيين وغيرهم.وعلى المستوى الإقليمي، يعد العداء السعودي الإيراني أحد التصدعات الإقليمية الرئيسية. فقد تحسن إيران والغرب علاقاتهما إذا توقف المتشددون عن تولي السلطة في طهران. ومع ذلك، وحتى مع وجود نظام إسلامي معتدل أو علماني في السلطة، فستستمر المنافسة الجيوسياسية والدينية مع السعودية وحلفائها وذلك في ظل فرضية استمرار التنافس العربي-الإيراني.

وفي سياقٍ متصل، تستمر محاولات تركيا للعب دور تعديلي في الشرق الأوسط، تحت حكم حزب العدالة والتنمية. وتلعب دورًا عسكريًا نشطًا للغاية في ليبيا، وتدخل في اشتباكات معقدة مع قوى عالمية مثل روسيا. وذلك في إطار مساعيها لتوسيع نفوذها في شرق المتوسط، بالإضافة إلى استثمار علاقتها بجماعة الإخوان في ترسيخ نفوذها في الخليج والمشرق العربي.

ومن جهة أخرى، يرجح أن تتفاقم القضية الفلسطينية على المدى الطويل، رغم تراجع اهتمام القيادات العربية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، في ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي بين غزة والضفة الغربية، حيث تحكم الأولى حركة حماس التي تصنفها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إسلامية متطرفة. بينما تعاني الثانية من الفساد وسوء الإدارة تحت حكم الرئيس محمود عباس، بحسب التقرير.

ورغم رفض الفلسطينيين الدائم لعمليات التسوية والسلام السابقة، فإن التقرير يتوقع استمرار عملية التطبيع في ضوء الاتفاقيات الأخيرة، إن لم يحدث ضم كامل لبقية الضفة الغربية مرة واحدة، أو أن يؤدي صراع مستقبلي إلى عدد كبير من الضحايا المدنيين. وهو التقارب المدفوع بتلاقي المصالح الأمنية، مثل التصور المشترك للتهديد الإيراني، أو المقاومة المشتركة ضد المخططات التركية في الشرق الأوسط.

وهكذا، يعتقد “كوهين” أن مستقبل إسرائيل في المنطقة يبدو آمنًا، باستثناء التهديد النووي الإيراني المحتمل، وهجمات حزب الله الصاروخية من لبنان. وبينما قد يتسبب الأخير في خسائر كبيرة في صفوف المدنيين دون تهديد وجود الدولة، فإن هجومًا نوويًا إيرانيًا محتملًا قد يتسبب في عدد كبير من الضحايا، لكن يستبعد التقرير هذا الاحتمال نظرًا لقدرة إسرائيل النووية للضربة الثانية ومعارضة القوى العظمى.

الدور الأمريكي

يوضح “كوهين” أن الولايات المتحدة ستعود إلى دورها التقليدي كموازن خارجي، لكنها قد تجد صعوبة متزايدة في الحفاظ على علاقات مريحة مع السعودية وإسرائيل من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى، في ظل نمو مصالح الصين في المنطقة.ويمكن للولايات المتحدة أن تستغل التحولات الاقتصادية في الدول الخليجية الغنية بدعم جهود تطوير السوق الليبرالية, وتشجيع استثمارات القطاع غير الاستخراجي في هذه الدول، وهو ما يتطلب تنفيذًا جيدًا للقوة الناعمة وتجنب الاستراتيجيات التي تنطوي على تغيير خفي في النظام أو تدخل عسكري، نظرًا لتكلفتها الباهظة وعدم فعاليتها على مدار العقدين الماضيين.

ومن المرجّح أن تحاول واشنطن إحياء الاتفاق النووي الإيراني. كما يرجح أن تكون بكين أقل مهارة في لعب دور جيوسياسي ناجح في الشرق الأوسط، لعدم تمتعها بميزة المشاركة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي تمتعت بها واشنطن لعقود. ومع ذلك، فإن “كوهين” يتوقع أن يستمر تراجع الدور الجيواقتصادي للمنطقة بالنسبة لواشنطن في ظل صعود الطاقة المتجددة، والتوسع في إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة.ختامًا، يجادل التقرير باستمرار الاضطرابات في الشرق الأوسط، ويوصي بتكيف الحكومات مع تحولات التركيبة السكانية، والقيم الاجتماعية الأكثر ليبرالية، والدوافع الاقتصادية القائمة على المعرفة، وسياسات القوة العظمى، والاستعداد لقبول التغيرات الجديدة والتفاعل معها، لمنع تفاقم الاضطرابات. وضرورة تنبه واشنطن لهذه المتغيرات حفاظًا على مصالحها في المنطقة